قال الله تعالى:﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(آل عمران:104).
لا يمكن لأيّ جماعة أن تبني بناءً صحيحاً ما لم تكن منضبطة بنظام خاص يُحدد المواقع والأدوار في حركتها ووجودها , فلا بد من تهيئة اللبنات الأساسية ليحيى الإنسان حياة شريفة وينال السعادة الحقيقية , فان المعارف الحقة من التوحيد والنبوة والمعاد لا تأخذ مكانها الطبيعي في المجتمع وفي نفس الإنسان ما لم تنتشر فيه الأخلاق الفاضلة , وهنا نجد رسول الله يقول
إنما بُعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق)( )، ويقول أيضاً
أدبني ربي فأحسن تأديبي)( ), وفي الوقت الذي كان النبي يقاتل المشركين لتثبيت معالم الدين , وقد خاض أعنف المعارك آنذاك , كان في الوقت نفسه ينادي بقوله تعالى:﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النحل:90), فلم تجعله تلك الظروف الصعبة يتخلى عن القيم الأخلاقية العالية , وعلى هذه القيم تربى الكثير من المسلمين المخلصين فانتهلوا منها فكانت تبث فيهم نشوة الحياة الكريمة وسمو القيم العالية , فمن جملة أخلاقه (عن الإمام الصادق يقول:مرّت برسول الله امرأة بذية( ) وهو جالس يأكل ، فقالت:يا محمد إنك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه ، فقال لها رسول الله : إني عبد وأيّ عبد أعبد مني ، فقالت:فناولني لقمة من طعامك فناولها , فقالت:لا والله إلا التي في فيك , فأخرج رسول الله اللقمة من فيه فناولها فأكلتها. قال أبو عبد الله :فما أصابها بذاء حتى فارقت الدنيا)( ).
وهكذا بقت الأمة تنتهل من رسول الله إلى أن فارق روحه الطاهرة الحياة , فبقى بعد رحيله الأئمة يواصلون المسيرة فهم الامتداد الطبيعي للرسول , وقد تربى في هذه المدرسة عدد كبير من المخلصين والمصلحين الذين كان لهم الدور الكبير في مجتمعاتهم.
النخبة الصالحة محور فعال في نشر الثقافة الإسلامية:
لقد اهتم أهل البيت بالحفاظ على معالم العقيدة الإسلامية وتكريسها في نفوس الناس من خلال مجموعة من الممارسات العبادية الجماعية والفردية , التي يشارك فيها المسلمون وعلى رأسهم الجماعات التي يكون لها نشاط مميز , ومن هنا يأتي دور الأفراد المرتبطين بهذا الخط من خلال نشاطهم في المجتمع ومساندتهم للرموز الدينية والمخلصين وكل العاملين , فقد كان رسول الله يبعث بهؤلاء إلى أقطار البلاد الإسلامية لنشر معالم الدين , وكان دأب أهل البيت العمل في هذا المجال , من خلال تربية الأفراد الصالحين , فكانت من ثمرات هذا الخط سلمان وعمار والمقداد وغيرهم , وهكذا كان الإمام السجاد يشتري العبيد ويجعلهم في بيته سنة كاملة يلقي عليهم ما شاء الله من العلوم الإسلامية والأحكام الشرعية , ثم يعتقهم ليرجعوا إلى بلادهم ناقلين معهم قيم الإسلام ومبادئه إلى قومهم فيكونوا أعواننا في بناء المجتمع الصالح.
أهمية ارتباط الأمة والنخب بالمرجعية الدينية :
إن حلقة الوصل والارتباط التي تُعدّ مفتاح التواصل بين الأئمة في وقتهم وجمهور الناس , وبين المراجع الدينية وجمهور الناس , هي هذه الطبقة من المجتمع التي تكون في مستواها الثقافي والديني بدرجة تؤهلها لفهم الخطاب المرجعي وكلمات العلماء بشكل يفهمه عامة الناس , وبما يستأنسون به , كما هو الحال في كتب المسائل الفقهية التي كتبت بلغة لعل الكثير من الناس لا يفهمونها , ولكن هذه الطبقة التي لها القدرة على الفهم وهي في نفس الوقت قريبة وتتعايش مع الناس تستطيع أن تبين للناس هذه المسائل وتقربها إلى أذهانهم فتكون اليد المساعدة لرجال الدين وطلبة العلوم الدينية في عملهم التبليغي.
النخب الصالحة والتثقيف السياسي للعملية الانتخابية الجديدة:
إن حمل مسؤولية التوعية الثقافية والسياسية في أوساط الأمة , وإبلاغ الرسالة الإسلامية في إطار المرجعية الدينية ومساعدة القيادة الإسلامية المخلصة ـ والذي فهم من حركة المرجعية الدينية الرضا عن منهجهم الانتخابي , وما يحملون من عقائد دينية مطابقة لمنهج أهل البيت ، ونصرة القيادة في عموم عملها الإسلامي ـ هو دور تقع مسؤوليته على هذه الطبقات المؤمنة, وهذا الدور هو الذي تشير إليه الآية الكريمة في دور الحواريين في زمن عيسى ابن مريم :﴿... قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾(الصف:14).
لذا فعلى هذه الجماعات أن تروّج لرأي المرجعية الدينية في توجيهاتها القيمة التي كان لها الدور البارز في استقرار الوضع في العراق , (فقد بيـَّنت المرجعية الدينية في أن الانتماء الوطني لابد أن يكون سقفاً لكل الانتماءات الأخرى).
عاشوراء مدرسة لتهذيب النفوس:
إن مدرسة الطف لم تكن مدرسة تربي الإنسان على البكاء والإنكسار فقط كما يصوره البعض , بل هي مدرسة تجمع بين العبرة والدمعة على مصاب أهل البيت وتجمع بين الموقف البطولي والصلابة في المنهج , يقول الإمام الحسين
ألا وإن الدعي إبن الدعي قد ركَّز بين اثنتين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وحجور طهرت ونفوس أبية وأنوف حمية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)( ), وهو مع هذه البطولة والشجاعة كان يتكلم عن الألم والمصيبة فإذا سقط أحد من أصحابه كان يُبكيه الموقف وتسيل له دموعه الطاهرة , فما كان قلبه قاسياً على غرار أبطال العرب وشجعانهم المعروفين بقسوة القلوب , كان يجمع بين الخصلتين الشدة والشجاعة والرقة والعاطفة الجياشة اتجاه أهل بيته وأصحابه , يذكر أصحاب المقاتل أن حبيب ابن مظاهر الأسدي عندما استشهد هدَّ مصرعه الحسين , فكان يتفاعل ويتعاطف برقّة كبيرة مع أصحابه وأنصاره , فكان بحراً من المشاعر الجياشة ورهافة الحسّ , مع شجاعة وبطولة منقطعة النظير, فمن كان يعتقد أن مدرسة عاشوراء تربي الإنسان على البكاء فقد وقع في خطأ كبير, كيف وهذه القوافل من الشهداء تتبع بعضها بعضاً وهي تردد مقولة أبي عبد الله الحسين جواباً لقيس بن الأشعث حيث قال للحسين :... إنزل على حكم بني عمك ، فإنهم لن يروك إلا ما تحب. فقال له
لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد ... فإني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما) ( ), حتى أصبحت هذه الكلمات أنشودة في مدرسة أهل البيت , فما وجد الظالمون من أنصار مدرسة أهل البيت إلا الصلابة والشجاعة والمقت لكل ما هو بعيد من المدرسة , فهي تُربّي على الموقف كما أنها تُربي على الولاء والحب الذي يُعدّ أحد مظاهره التعاطف والبكاء والحزن على مصائبهم b .
اقتداء النخبة بأهل البيت b والمرجعية الدينية نموذج يُحتذى به :
إن شخصية الإنسان بطبيعتها وفطرتها تبحث عن القدوة والنموذج المجسّد للقيم التي تتبناها
وتؤمن بها , لذا تُعدُّ النخب الدينية والشخصيات المرتبطة بأهل البيت نماذج عملية في سلوكها وسيرتها لغيرهم من الموالين والمخالفين ، فقد روي عن علي بن أبي زيد عن أبيه قال: كنت عند أبي عبد الله الصادق فدخل عيسى بن عبد الله القمي فرحب به وقرب من مجلسه ، ثم قال:يا عيسى بن عبد الله ليس منا ـ ولا كرامة ـ من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون وكان في ذلك المصر أحد أورع منه)( ), وخير شاهد على هذه النماذج العملاقة التي كانت تجسّد حركة أهل البيت b في المجتمع هم أصحاب الإمام الحسين , فقد كانوا أعواناً حقيقيين لنصرة الحق , فوقفوا في أصعب الساعات التي تخلى فيها الناس عن نصرة أهل البيت , ليُجسّدوا أعظم الملاحم البطولية.
الشخصية القرآنية الكاملة جسّدها رسول الله ووصيه الإمام علي :
إن التدبر في شخصية الإمام علي بن أبي طالب يجد أنها جمعت بين الأضداد بما يبهر العقول , فمع كونه لا يخاف في الله لومة لائم فكان إذا نزل إلى المعركة يجول بين الكفار ضرباً وطعناً , وهنا يذكر الطبري عن أبي عبد الرحمن السلمي يقول
كنا مع علي بصفين ، فكنا قد وكلنا بفرسه رجلين يحفظانه ويمنعانه من أن يحمل ، فكان إذا حانت منهما غفلة يحمل ، فلا يرجع حتى يخضب سيفه. وإنه حمل ذات يوم فلم يرجع حتى انثنى سيفه ، فألقاه إليهم ، وقال:لولا أنه انثنى ما رجعت)( ), وفي الوقت ذاته نجده إذا جنَّ عليه الليل انقطع إلى ربه ودموعه تجري على خديه يرتعد خوفاً ورهبةً وخشوعاً, فنجد أن هذا الموقف تجسّد في شخصية أصحاب الحسين الذين جعلوا أهل البيت قدوة لهم , وهنا يذكر أصحاب المقاتل أن أصحاب الإمام الحسين في ليلة العاشر من محرم عندما جنَّ عليهم الليل , كان لهم دوي كدوي النحل , فكانوا بين قائم وقاعد وراكع وساجد وتالٍ للقرآن يردد آياته , ينظرون إلى الجنة ببصائرهم ويتشوقون إلى لقاء رسول الله وأمير المؤمنين والزهراء b ... وما أن حلَّ الصباح وبدأت المعركة حتى أخذوا يتسابقون إلى الشهادة ويستأنسون بها كاستئناس الطفل بمحالب أمه , وما هي إلا ساعات وإذا بهم على رمضاء كربلاء مضرجون بدمائهم وكأني بالإمام الحسين ينظر يميناً وشمالاً فلم ير أحداً من أنصاره إلا وقد صافح التراب جبينه ومن قطع الحمام أنينه ...